الأحد، 22 نوفمبر 2009

"أشياء صغيرة"


..على أريكة متهالكة في بيتها القديم نامت تحلم مثل كل الأطفال بغد جديد يحقق آمالها التي عجز أبوها بمحدودية دخله الذي يحصلّه من وظيفته المتواضعة أن يحققها.. رأت العروسة التي صنعتها بالأمس من الورق لعبة جميلة مثل التي يشتريها "الآباء الحقيقيون" لأولادهم.

لم يستوعب عقلها الصغير لماذا يرفض والدها شراء عروسة لها؟ ولم تعرف كذلك لماذا لا تنام على سرير مثل غيرها من الأطفال الذين تراهم في التلفزيون في اللحظات القليلة التي يتاح لها أن تشاهده وهي في زيارة عمتها.

سمعت عروستها ترقص وتغني، تضحك وتبكي، تغمض عينيها وتفتحهما، بعد أن تقول: "ماما"..
- "حتى اللعبة غاضبة من "بابا" ولا تريد أن تنطق اسمه"، همست لنفسها وهي في اللحظات الأخيرة من "الحلم اللذيذ".

هزتها يد خشنة قطعت أحلامها الوردية.. صرخ فيها والدها:
- "تأخرتِ عن موعد المدرسة، وقد أتأخر عن العمل بسببك".
وقال لنفسه بأسى وهو ينظر إليها بإشفاق ممزوج بالغضب:
- "متى تكبرين لأرتاح من عناء توصيلك كل يوم؟".

فتحت عينيها بهدوء، لم تزد على ابتسامة حزينة.. "لو كانت أمها حية لما عاملتها أبدا بهذه الطريقة"، فهي تسمع من بعض صديقاتها في المدرسة كيف تعامل الأم ابنتها "الشقية"؛ كيف تمشط لها شعرها وترسله في ضفيرتين صغيرتين وهي تتألم من شد "ماما" ضفيرتيها، أو تستغرق في ضحك بريء عندما تتأكد من وضع "الفيونكة" في مكانها الصحيح بعدما تصر أن تصنع لها أمها الحبيبة "ذيل حصان" يجمل خصلات شعرها الناعم.

- "لو كان عندي حصان لركبته وهربت من هذه الحياة القاسية"، قالت لنفسها ذلك وهي تسرع إلى الحمام المتهالك في بيتهم القديم.. بللت وجهها بقطرات من الماء المنسكب بخجل من الصنبور الذي نادراً ما تزوره المياه بانتظام.. ارتدت المريلة الوحيدة التي تملكها بعد أن جمعت شعرها في خصلة واحدة مجعدة، وأسرعت لتناول الإفطار.

كان في انتظارها على ورقة الجريدة المفرودة على الحصير المتهالك ـ الذي لم ينجح رغم "أصالته" في إخفاء البلاط الأسود القبيح ـ رغيفُ خبزٍ لا ملامح له، وبقايا جبن "قريش" طالما تمنت أن يكون من النوع الفاخر الذي تحدثها عنه صديقاتها، أو حتى لقمة واحدة من المربى الممزوجة ببعض القشدة البيضاء.. لم تكن تحلم أبدا أن تشرب كوبا من الحليب، أو تأكل بيضة ذات صباح "عادي" من صباحات "الوطن الكبير" مثل غيرها من الأطفال.

حملت حقيبة أثقالها على ظهرها، ومضت تنوء بما دسّته فيها من كتب وكراسات.. تتذكر جيدا الألم الشديد الذي لمحته على وجه أبيها عندما همّ بإخراج ثمن هذه الأشياء "الصغيرة"، التي لم يتجاوز ما دفعه فيها بضعة جنيهات، لكنها كانت كافية للتأثير في ميزانية هذه الأسرة الفقيرة.

جرها والدها بقسوة، ثشبثت بعروستها الورقية، نظر إليها بغضب، كادت صفعة من يده الخشنة تنزل على خدها الناعم: "هل هذا وقت هذه التفاهات؟
- "لو خصموا مني اليوم فلن نستطيع أن نكمل باقي الشهر من غير أن نستدين"، قالها بسرعة وجذبها وهي بالكاد تكاد تلامس الأرض بقدميها بعد أن قفز والدها على درجات السلم المتهالك من غير أن يراعي الفرق بين "خطواتها الصغيرة" و"خطواته الكبيرة".

كان الشارع يضج بالسائرين ككل يوم؛ والسيارات تنهب الأسفلت في تحدٍ وصلَف من غير أن تأبه بالعابرين، كان لا بد أن تعبر هي ووالدها الشارع حتى يتمكنا من ركوب "الأتوبيس".. نظر الوالد حوله نظرات مشتتة ممزوجة بالغضب والقهر وفي جزء من الثانية اتخذ قراره بالعبور .. فوجئت بيد والده تجذبها بقسوة، طارت قدماها من على الأرض من جديد وطارت معها العروسة الورقية وعندما لامست الأرض كانت العروسة تحلق في السماء بعيدا عنها.. تشبثت بيد والدها حاولت أن توقفه ولو لدقيقة واحدة تستعيد فيها حلمها الطائر، تسمرت في الأرض لحظة وصول "الأتوبيس" رفضت بإباء أن تركبه، جذبتها يد والدها الخشنة بقسوة ودستها بعنف وسط الأجساد المتلاصقة، كادت عظامها أن تتحطم من ضغط بقية الركاب على جسدها النحيل، جاهدت للاقتراب من النافذة لم تلق بالا ليد والدها التي هوت بسرعة على خدها وسط لا مبالاة الآخرين كتمت بكاءها وحبست دموعها واستمرت في محاولاتها المستميتة للوصول إلى النافذة، وعندما نجحت، رأت عروستها الورقية ترقد باستسلام تحت حذاء شرطي المرور بعد أن طمست معالمها قذارة تراكمت على الحذاء من كثرة الوقوف في شوارع "الوطن الكبير".




أيمن جمال الدين